روايات حديثة

رواية لخبايا القلوب حكايا الفصل الخامس عشر للكاتبة رحمة سيد

رواية لخبايا القلوب حكايا

قد تكون صورة ‏‏شخص واحد‏ و‏نص‏‏

 

الفصل الخامس عشر :-

رمش "فارس" بعينيه عدة مرات، وكأنه يؤكد على صحة الصورة الواقعية التي برقت بعقله، محولة سابقتها المشوشة لرماد فر ادراج الرياح..
إذ أن "فيروز" وببساطة لم تخنه كما توقع، بل أصَّلت جذور نجاحه بتلك الصفقة!

عَلت صفارات البهجة داخله وقلبه يقيم الاحتفالات نصرًا على عقله الذي انزوى وسط شكوكه... فها هي رغم امكانياتها، لم تدمر الشركة وتدمره معها.

اعتدل في جلسته وثبت نظراته عليها أكثر، وكأنه يحاول سبر أغوارها، فمازال عقله يحذره من احتمالية تدبيرها لفخ أكبر من ذلك... فخ الثقة!
توترت قليلًا بسبب نظراته تلك التي لم تستطع تفسيرها، ولكنها استجمعت نفسها، وبالفعل انتهى الاجتماع بعد قليل..

بعدها بفترة غادروا مقر الاجتماع، ووصلوا لمنزل فارس الذي كان صامتًا طيلة الوقت تقريبًا، ونظراته هي مَن تصدر ضجيج لا تستطع فيروز تجاهله..

كادت "فيروز" تترجل من السيارة لولا أن أوقفها "فارس" مناديًا بأسمها:
-فيروز، استني.
إلتفتت نحوه تسأله بترقب:
-نعم يا باشمهندس؟
-باشمهندس؟
رددها مستنكرًا، فهزت رأسها بقليلٍ من الاستغراب:
 

 

-ايوه!
لوى شفتاه متصنعًا الحنق وأردف:
-في واحدة تقول لجوزها يا باشمهندس.
هزت كتفاها معًا مبررة بخفوت:
-بحكم العادة يعني.
داعبها بنبرة صبيانية تحل ضيفة على لهجته معها لأول مرة:
-أنتي عايزه الناس تاكل وشنا ولا إيه؟ تعالي نتفق اتفاق، أنتي تقوليلي فارس، وأنا أقولك يا برتقانة.. تمام؟
عقدت ما بين حاجبيها وملامحها قد انبطحت بالاستهجان:
-برتقانة؟!
اومأ مؤكدًا برأسه، ثم اقترب منها ببطء مثير، حتى تغلغلت رائحة عطره النفاذة أنفها، مداعبة دواخها بنعومة كفراشات خفيفة.

وهمس متابعًا بلهجة رجولية خشنة مثخنة بالمشاعر:
-عشان أنتي شبه البرتقانة، في شكلها ولونها وحلاوة طعمها اللي نفسي أدوقه.
 

 

تراجعت كثيرًا حتى إلتصقت بالكرسي من خلفها، وشعرت بأنفاسها تنحسر، وثقلت حتى أصبحت تلتقط أنفاسها بصعوبة بصوتٍ عالٍ وهي تشعر بحصاره المُهلك لها، ثم سألته عقب جملته الأخيرة بشيء من الفزع، مصدومة:
-هو إيه ده!
رفع حاجباه معًا والمكر ينضح من اجابته:
-البرتقانة طبعًا.
هزت رأسها ببطء، ثم استدارت وكادت تترجل من السيارة، فأمسكها فارس من ذراعها برفق يوقفها، ليجدها انتفضت وكأن ثعبان لدغها، رسم فارس ابتسامة خفيفة يهدئها مشاكسًا:
-اهدي مالك، أنا أليف والله!

بادلته ابتسامة انتزعتها بصعوبة من أسفل حجر التوتر القابع على قلبها، نظر فارس لكفيها المنغلقين على بعضهما بقوة، ومد يده ببطء وأمسك بهما يفرقهما، ثم وجدهما متعرقان، فبدأ يمسحهما مستشعرًا نعومتهما ضد خشونة أصابعه..

فيما تصبغت وجنتاها بحمرة الخجل التي نتجت من فوران دماءها بعاطفة جديدة عليها كليًا، ولازال الذهول يتخذ حيزًا ملحوظًا داخلها وهي تحاول الاعتياد على هذا الوجه الجديد منه.

تمتم فارس برقة ومازالت أصابعه تداعب كفها الأيسر الذي شعرته متصل بقلبها الذي أخذ يقرع كالطبول وكأن كل لمسة له هو مباشرةً وليس لكفها:
-ايدك عرقانة أوي من التوتر، ليه كل ده؟!
حاولت سحب كفها من بين قبضته وهي ترد بصوت مبحوح نوعًا ما :
-عادي، ده طبع.
ولكنه شدد الحصار على كفها، ومن ثم راح يسألها بهدوء تام:
-عملتي كده ليه؟
تغيير الموضوع فجأة زادها اضطراب فوق اضطرابها الداخلي، لذا غمغمت ببلاهه:
 

 

-عملت إيه؟
أوضح لها بنفس الهدوء الذي بدا لها مُريب تلك اللحظات:
-اللي عملتيه في الاجتماع.
استغرقت ثوانٍ معدودة وهي تعيد ترتيب أبجديات التفكير داخل عقلها، ثم نظمت أطراف اجابتها التي خرجت عملية:
-ده شغلي يا باشمهندس.
داعبت ابتسامة صغيرة شفتيه وهو يعاتبها برقة:
-تاني باشمهندس!
ابتسمت ببطء هذه المرة دون شوائب من التوتر او الاصطناع، ثم بررت بعفوية:
-معلش بقا ذلة لسان.
هز رأسه موافقًا يسايرها:
-ماشي ياستي.

ظنت أن هذا الحوار الذي طال كثيرًا -بالنسبة لها- انتهى، ولكنها كانت مخطئة إذ أن كفها لم ينل الافراج من سجن قبضته، وهالها ما شعرته من اقتراب سجن قلبها الذي عهدته خارج تلك الحسابات تمامًا !!

أمال فارس رأسه وهو يستطرد بلمحة من العبث:
-بس مش هسيبك برضو غير لما اتأكد إن لسانك اتعود عليا.. اقصد على أسمي.
ابتلعت ريقها وهي تسأله:
-هتتأكد ازاي.


لا تدري هل هُيئ لها ام أن ذلك حقيقة، ولكن تلك اللمعة الماجنة بعينيه بدت كأنها شعلة فريدة من نوعها أنارت عتمة عينيه، مناقضة تمامًا لاجابته البريئة ظاهريًا:
-هنبدأها من دلوقتي، يلا قولي فارس.. فـ ا ر س، أسم سهل أوي، وخفيف على اللسان.

أرغمت الحروف على الامتثال أمامه، فخرجت خافتة تكاد تسمع اثر التوتر:
-تمام يا فارس.

انبأت شفتاه عن ابتسامة سعيدة واسعة هذه المرة حين استشعر حلاوة اسمه من بين شفتيها، وواصل بخفة:
-أحلى فارس دي ولا إيه.

لم تنطق بحرف، وكأن القلق أعلن وَأد كل ما قد يُولد من كلمات على شفتيها..
فأعفاها أخيرًا من الامتثال لسطوه الرجولي حين أفرج عن كفها اخيرًا وهو يتشدق ضاحكًا:
-خلاص خلاص روحي احسن تسيحي خالص.
-ماشي، سلام.
غمغمت بها متحرجة، ثم فرت من أمامه دون أن تنتظر حتى إن كان سيدخل المنزل معها ام لا..

 

 

سارت نحو الداخل تتنفس بصوت مسموع، متسعة الحدقتين فعليًا، لا تصدق أنها هي تلك المُذبذبة الخجولة التي كانت منذ قليل، لون جديد فرضه عليها فارس بفرشاة مكره الرجولي الذي تستنبطه منه لأول مرة وتجهل سببه !

بينما فارس يداه تدور على المقود وهو ينظر في اثرها بشرود، بالرغم من الشك الذي لم يستأصله كليًا من داخله، إلا أن قلبه مرتاح وهو شخص اعتاد الانقياد خلف قلبه ما لم يتعارض مع عقله، وعقله هادئ يصدر تحذير شك خافت كان بمثابة أنين ما قبل وفاة ذاك الشك.

****

اليوم التالي...

نهضت فيروز بعدما أنهت مكالمتها مع صديقة عمرها "كارما" التي قصت على مسامعها الكارثة التي حلت على حياتهم، نعم حياتهم.. فببساطة كارما حياتها وقلبها مُسربلان بـ عيسى ومصيره، فحتى لو غضضنا البصر عن مشاعرها الجلية نحوه، يبقى عقلها الذي لا يتحمل ثبوت صدمة كتلك!

ارتدت ملابسها وتجهزت للذهاب لصديقتها، أوقفها فارس الذي كاد يغادر لعمله هو الاخر، متسائلًا باستغراب:
-رايحة فين يا برتقانة؟

 

 

نعم.. صار يردد "برتقانة" متعمدًا في كل الأوقات، وكأنه يُذكرها بمكر بتلك المشاعر المختزلة في هذا اللقب الخاص..

استدارت نحوه مجيبة بملامح مقتضبة نوعًا ما بسبب حال صديقتها:
-رايحة لواحدة صحبتي.
تابع اسئلته:
-صحبتك مين؟
-كارما، جارتي وصاحبة عمري.
هز رأسه موافقًا، ولم تنقطع استفساراته:
-رايحالها فين؟
تنهدت تنهيدة عميقة ثقيلة قبل أن تجيبه بوجوم:
-القسم.
تجمد فارس هو الاخر مأخوذًا بإجابتها، ثم استنكر:
-رايحالها القسم؟
هزت رأسها نافية ما وصل لإدراكه، ومن ثم استرسلت تخبره:
-مش رايحالها هي بالظبط، جوزها للأسف مُتهم في قضية، وأنا لازم أكون معاها.
سألها من جديدٍ بثباتٍ:
 

 

-قضية إيه؟
اختنقت الاجابة في جوفها بالرفض، قبل أن تخرج مجبرة:
-قتل.
إتسعت حدقتاه ذهولًا، ومن ثم انتفض معلنًا رفضه الحازم:
-مستحيل، واحدة جوزها متهم في قضية قتل وعايزه تروحيلها وتبقي قريبة منهم عادي كده.

تلقائيًا وجدت نفسها تتغنى بأسمه مخالفة عادتها، وتقنعه بتعقل:
-يا فارس! بص، اولًا هو لسه مافيش حاجة اتثبتت عليه ده مجرد اتهام عشان الجيران شهدوا إنه اخر واحد خرج من المحل بتاعه، وثانيًا ده كان جارنا قبل ما يكون جوزها، وعمرنا ما سمعنا عنه حاجة وحشة وعلى طول في حاله، ثالثًا أنا رايحة عشان صحبتي مش عشانه، هي لوحدها وأختها صغيرة ومامتها في دنيا تانية طبعًا، فـ زمان نفسيتها تعبانة.

زم فارس شفتاه بعد أن اجهضت اعتراضه برزانة، رغم أنها يمكن ببساطة أن تتحداه!
لذا وجد نفسه يعرض مساعدته غير المطلوبة:
-تمام، أنا هوفرله محامي شاطر شغال معايا، ولو هو فعلًا مظلوم ومحترم 

 

هيخرج منها ان شاء الله.
عضت فيروز على شفتيها بتردد تغمغم له:
-بلاش، خايفة مايرضوش ويحسوا بالإهانة.
هز رأسه نافيًا ببساطة:
-يحسوا بالإهانة ليه! هما هيدفعوله تكاليفه، أنا مجرد هقدملهم المحامي الشاطر بدل ما يلفوا كتير، وهروح معاكي.
وقبل أن تعترض، باغتها بنبرة تمليكة قوية تستشعرها منه للمرة الأولى:
-مرات فارس ابو الدهب مش هتدخل قسم شرطة لوحدها.

فلم تكن تملك سوى تلك الايماءة الموافقة على مضض، لا تريد أن تفكر بأي شيء على الأقل حاليًا، بعد أن اضحت كل الظروف من حولها.. ومشاعرها؛ في حالة رثة من عدم الاتزان !

****

بعد ما يقارب الخمس أيام...

أيام كانت من اسوء ما يكون بالنسبة لعيسى وكارما، فعيسى قضى تلك الأيام في قسم الشرطة على ذمة التحقيق؛ لأنه كان اخر شخص يرى المجني عليه بشهادة الشهود، وكارما كانت تتردد على القسم يوميًا لرؤيته واحضار ما يحتاجه، رغم أنها لا تتحدث معه -فعليًا- !!

 

 

واخيرًا خرج من ذلك القسم، بعد أن تم دفع الكفالة له، واثبات أنه كان في مكانٍ آخر وقت الواقعة، ولعدم كفاية الأدلة التي تدينه ايضًا، ولكنه يظل على ذمة القضية ولم تنتهي تمامًا.

سار عيسى بجوار كارما، ثم نظر تجاه فارس الذي كان يقف أمامه مع فيروز، وهتف بصوت أجش شاكرًا:
-شكرًا لوقفتك معانا يا باشمهندس، تعبتك معايا.
هز فارس رأسه نافيًا بلباقة:
-مفيش تعب ولا حاجة، أنت ابن حلال عشان كده ربنا بيبعتلك اللي يعينك على المحنة اللي حطك فيها، وأنا كنت مجرد وسيلة مش أكتر.

هز عيسى رأسه برضا حاول جعله يتفشى كليًا داخله، قبل أن يمسك فارس بيد فيروز مستأذنًا:
-طب نستأذنكم احنا بقا.
أشار له عيسى بإرهاق بينما يراقب سيارة الاجرة التي تنتظره هو وكارما وشقيقه حازم:
-اتفضل اذنكم معاكم.

مالت فيروز تجاه كارما تؤازرها بصمت، تُعلمها أنها ستظل جوارها مهما حدث وستحظى بدعمها دومًا، قابلتها كارما بابتسامة شاحبة ممتنة.

تحرك كلاً من عيسى وكارما بعدها لمنزلهما، أوصلهما حازم الذي وُضع لأول مرة موضع الراعي وليس الرعية!

وصلوا جميعهم أسفل البناية التي يقطن بها كارما وعيسى حاليًا، نظر حازم تجاه شقيقه يسأله بحرص وود:
-محتاج حاجة يا عيسى؟
هز عيسى رأسه نافيًا يجيبه بابتسامة صافية:
-لا إلحق روح أنت شغلك عشان متتأخرش اكتر.
 

 

-لو محتاج عادي أنا آآ....
قاطعه عيسى يشاكسه كعادته رغم صعوبة ذلك -حاليًا- :
-خلاص بقا ياض هو اللي كنت بعمله فيك هيطلع عليا ولا إيه؟
ضحك حازم قبل أن يرمي نفسه بأحضان عيسى، داعيًا الله ألا يجعله يتذوق مرارة الفقد ابدًا.

***

بعد قليل صعد كلاً من "عيسى" و "كارما" منزلهما في ظل الصمت الذي يخيم على الاجواء..

كانت تطالعه بنظرات صامتة في ظاهرها، ضاجة في باطنها، وهو كان يستطع ببساطة قراءة كل ما يدور بخلدها قبل أن ينطق به لسانها، فهو صار يعرفها كخطوط كف يده..
تنهد قبل أن يقول ببحة هادئة مُرهقة:
-قولي اللي عاوزه تقوليه يا كارما.

ترددت كثيرًا في بوح ما كان على أعتاب لسانها، ربما لأنها لا تملك جرأة انتظار جواب سؤالها!

ولكنها استسلمت لقبضته الغليظة على قلبها والتي لن تخف إلا بخروجه وسطوع نور الحقيقة في قلبها ليهنأ بالارتياح..
فسألته مباشرةً بصوتٍ حاولت جعله ثابت:
-أنت عملت كده فعلًا ؟
لم تستطع نطقها صراحةً وتقول "قتلته" تستثقل تلك الكلمة كثيرًا، ربما لأنها لم تكن تسمعها سوى في الأفلام، وربما لأنها لازالت مصدومة أنه متورط في أمرٍ كهذا.

 

 

انتبهت له حين تأخرت الاجابة الشاقة وجاء بدلها سؤال اشد مشقة لها:
-أنتي إيه رأيك؟ عملتها ولا معملتهاش؟
كانت تود الصراخ به ألا يلعب على أوتار مشاعرها الان، ولكنها ابتلعت ريقها مستسلمة وتشدقت بما يمليه عليها قلبها المنحور:
-لأ، مش قادرة أصدق إنك تعمل حاجة زي كده، بس... خايفة!
سألها عاقدًا ما بين حاجبيه ببطء:
-خايفة من إيه؟
ردت صراحةً بشفاه مرتعشة:
-خايفة أكون أنا اللي بقنع نفسي بكده، خايفة أتصدم، خايفة يكون الاحساس اللي جوايا صح.
اقترب منها خطوة مستفسرًا بخفوت وهو يستشعر ثقل ما تشعر على كاهليها:
-احساس إيه بالظبط؟
كادت تبكي حرفيًا وهي تخبره بنغمة صوت أنذرته أنها على وشك الانهيار:
-احساس إني خاينة وحقيرة، إني لحد دلوقتي ماعزتش أمي، بس هعزيها ازاي وأنا جوزي ممكن يكون هو اللي قتله، قتل الشخص اللي كبرت تحت رعايته حتى لو كان بيعاملني وحش، أنا وحشة أوي، أنا ازاي مش زعلانة 

 

على موته وكان كل همي إنك تطلع برئ وكل خوفي عليك أنت!

-كارما..
همهم بأسمها بلهفة وهو يحيط بوجهها بين كفيه يرفع وجهها الباكي نحوه، قبل أن يضيف بنبرة أكثر لهفة:
-أنا ماعملتهاش يا كارما، ماقتلتهوش والله العظيم.

تابعت من وسط دموعها، حتى لم يفطن أهي كارهه لذلك ام تقصه عليه فقط:
-ما أنا عارفة، رغم إنك ماقولتش حاجة.
ثم ضربت بيديها على فخذيها وغمغمت بما شابه الهذيان وكأنها تلوم نفسها:
-كل ما أقول خلاص عملت كنترول لنفسي، أكتشف إني كنت بضحك على نفسي مش أكتر.

لا يدري هل هذا اعتراف غير مباشر بالحب منها، ام هو مَن ظن ذلك، ولكنه لم يكن بحالة تسمح له بتفسير مشاعرها الان، فهو كان في حالة من التيه لا تقل عنها..

لذا وجد نفسه منقادًا خلف المشاعر التي تفجرت من كبوة الكتمان، وقرّب وجهها منه بقوة، أنفاسه تهدر بوجهها.. قبل أن يقول بخشونة وعاطفة منفلتة:
-اسف، بس أنا محتاج أعمل كده.

ودون أن ينتظر المزيد، كانت شفتاه الغليظة تغطي شفتيها المرتعشتين، ليتناغما سويًا بجنون ولهفة.. على لحن الألم الذي يتشاركاه، والخوف من فراق هدد أبوابهما، دون اعتراض منها هذه المرة..

 

 

 

كان يحتاج ذلك وبشدة، يحتاجها.. يحتاج الشعور بها وبدعمها وحبها الذي لم تفصح عنه، يحتاج أن يبثها بصمتٍ عجزه، روحه المُكبلة بسلاسل وجد نفسه مقيد بها فجأة ولا يدري كيف سيحرر نفسه !

تركها اخيرًا حين شعر بقرب انقطاع أنفاسهما، تشاركا لهاث أنفاسهما، وحين فرقت كارما شفتاها تنوي النطق، قاطعها واضعًا إصبعيه على شفتيها التي حملت اثار وصالهما اللاهب، ليمنعها بصوت متهدج:
-متقوليش حاجة دلوقتي.

كانت مرهقة بما يكفي لتستسلم وتصمت مبتلعة ما كادت تقوله، فتركها هو على مضض متجهًا نحو غرفته، تحديدً المرحاض ليغسل جسده مما علق به الأيام الماضية، ولا يدري هل سيستطع تنقية روحه كذلك ام لا...!!

****

بعد فترة...

وصلت "فيروز" مع "فارس" لاحد الأماكن العامة، والذي من المفترض أن يجتمعوا به بأحد رجال الأعمال المهمين؛ لأنها ستعمل على مشروعه الكبير كمكافأة لها كما أخبرها فارس الذي تحس بالتغيير الذي أصاب جذوره، تغيير تجهل ماهيته وهذا ما ينفث فيها نيران القلق !

رمقت فارس بنظرة منبوشة بأظافر التوتر الضارية، تخشى أن يكون متربض لها بفخ جديد..
فقابل فارس نظرتها بابتسامة صغيرة يفوح منها السكينة التي حاول بثها فيها وهو يهتف:
-أنا موديكي لمكافأة وشكر ليكي، مش خاطفك والله.

ابتسمت هي الاخرى وهي تزفر بصوتٍ عالٍ، تردد داخلها أن لا داعٍ لذلك الارتباك، ولكن ربما ارتباكها هذا بسبب دخول مشاعرها في هذه الحرب المميتة!

نظر فارس حوله يمينًا ويسارًا يبحث عن الشخص المنشود، وهو يردد متأففًا:
-اتأخر كده ليه ده.

وفي اللحظات التالية ظهر، كان رجل اعمال شاب يقارب فارس في عمره تقريبًا، شعره الكستنائي الناعم يلمع بسبب الشمس، وسيم نوعًا ما..

اقترب منها وشعرت بعينيه تمشطها سريعًا قبل أن يرسم ابتسامة بشوشة ويتشدق وهو يمد يده نحوها ليصافحها:
 

 

-مصطفى الحسيني، أنتي فيروز صح؟ وأسف على التأخير.
اومأت برأسها مؤكدة وابتسامة جزئية انتصبت على شفتيها:
-اهلًا وسهلًا بحضرتك، ايوه فيروز.
ثم استدار نحو فارس متابعًا بنفس الابتسامة وهو يصافحه:
-سوري يا فارس Ladies first بقا.
تصنع فارس الابتسام رغم الحنق الذي بدأ يعتريه بسبب اللزاجة المفاجأة التي يراها منه لأول مرة:
-ولا يهمك، إيه اخبارك يا درش؟
هز رأسه متمتمًا بسلاسة:
-أنا تمام جدًا.
ثم أشار لهما تجاه المقاعد واستطرد:
-اتفضلوا نقعد بقا عشان نبدأ شغل.

بدأ الحديث عن العمل وسط فارس الذي كانت سوداوتاه كحقلٍ اشتعلت فيها النيران ولا تخفت ابدًا بل تشتد ضراوة؛ لا يعجبه ابدًا ذلك التلطف بينهما، وفي نفس الوقت لا يملك أن يمنعها عن ذلك فهي لم تتعد حدودها.

نهض مصطفى بعد قليل بعد أن صدح هاتفه معلنًا وصوله اتصال، قائلًا بهدوء:
-هرد على المكالمة دي وجاي على طول.
اومأ له فارس موافقًا، وتنهدت فيروز بابتسامة تشعبت ثغرها كله، فهي رغم كل ما يشغل عقلها، يبقى حبها لعملها مسيطرًا على معاقل عقلها.

نظر لها بطرف عينيه وتمتم بصوت مكتوم من الغيظ الذي حرص ألا يتدفق منه:
-لذيذ مصطفى.
اومأت بعفوية مؤكدة:
-اه حد لطيف بصراحة ونورمال مش متكبر ولا رسمي اوڤر.
همهم مضيقًا عينيه وهو ينظر لها بنظرات عجزت عن تفسيرها، فاسترسلت بقليلٍ من التلعثم:
-زيك يعني.
عاد بجسده للخلف ببطء وابتسامة تقطر زهو كالطاووس كانت ترافق شفتاه 

 

 

وهو يواصل:
-أنا مفيش زيي.

التوت شفتاها بابتسامة لم تستأذنها لاعلان نفسها على ثغرها، فهي رغم كرهها للغرور إلا أنها تتقبله منه، بل تكاد تجزم أنها اصبحت تحب غروره الرجولي ذاك.

انتبهت له حين اقترب منها قليلًا ثم اشار لها نحو الجهاز اللوحي وسألها على نقطة متعلقة بالعمل، فوقعت هي في فخه واندمجت وبدأت تتحدث معه في تلك النقطة بطلاقة..

حينها وببطء مد ذراعه حولها ليحتوي جسدها برفق حتى صارت -تقريبًا- بين أحضانه، يقسم أنه لم يشعر يومًا أنه مالك جوهر الدنيا بيده كما شعر الان وهي بين أحضانه، رائحتها قريبة جدًا منه تهدد بانفراجة غير محسوبة لعاطفة يحجمها بشق الأنفس..

انتبهت لوضعهم الحالي فابتلعت ريقها وقد فرت كل الجدية التي كانت تنهتجها في حديثها منذ قليل، وثقلت أنفاسها قليلًا وهي تهمس بحروف متقطعة:
-فارس أنت.... آآ...


عقد ما بين حاجبيه يسألها ببراءة:
-أنا إيه؟
أشارت بعينيها لوضعهم ولم تجرؤ على النطق أمامه أنه يتلمسها متعمدًا، فاستغل هو ذلك وقال بنبرة ثعلبية متصنعًا الجدية:
-لا لا مش عاجبني ادائك مفيش تركيز في الشغل، لا فيروز كله إلا الإتقان في العمل.
كزت على أسنانها بغيظ ونطقت من بين أسنانها:
-ما أنت اللي ماسكني.
إتسعت عيناه في تعبير درامي وهو يصيح مستنكرًا:
-أنا يابنتي!
ثم أشار لذراعه وتشدق بمسكنة:
-ده أنا دراعي جاله شد عضل من الوضعية دي فقولت أغيرها، ما تصفوا النية شوية بقا.

همت بالاعتراض لولا مجيء مصطفى، الذي استحسنه فارس لأول مرة منذ حضورهم، ففيروز صمتت رغمًا عنها، ولم يبتعد فارس عنها بل شدد من احتضانها وكأنه يعلن ملكيته الحصرية لها، وإتسعت ابتسامته الراضية كصبي انتصر وملك لعبته المفضلة.

****

استيقظت "كارما" من نومها الذي سقطت به اخيرًا براحة بعد أرق دام لأيام سابقة، بدأت تبحث عن عيسى الذي من المفترض أنه نام هو الاخر..

ولكن لم تجده، عقدت ما بين حاجبيها وغادرها النعاس تمامًا، ثم انتبهت لورقة كانت موضوعة على المنضدة في الصالة، أمسكتها بعدم فهم وفتحتها لتقرأها، وجدت بها رسالة من "عيسى" ومحتواها كان معقل الصدمة النفسية لكارما
" أنا أسف يا كرملة، أنا مشيت.. وأسف على اللي أخدته، ورقة طلاقك هتوصلك قريب"

نظرت مسرعة بعدم تصديق لتجد حبر ازرق يزين اصبعها معلنًا وصمة سوداء قاسية تركها عيسى فيها، فقد ادركت من خلالها أن عيسى جعلها "تختم بإصبعها" وهي نائمة على تنازل للبناية التي ورثتها عن والدها وسيطلقها قريبًا........!!!!! 

رابط البارت السادس عشر

تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-