رواية ظلام الصعيد الفصل الثاني عشر 12 والاخير بقلم نور الشامي


 رواية ظلام الصعيد الفصل الثاني عشر والاخير

كانت سلمى تجلس خلف المقود.... أنفاسها تتلاحق، ودموعها تختلط بعرقها، وعيناها لا تكفان عن النظر في المرآة الخلفية حيث أضواء سيارة سوداء تقترب منها بسرعة هائلة وقلبها يخفق بعنف وصوت المحرك يعلو كصرخة يائسة فـ همست بخوف وهي تضغط على المقود:

يارب... يارب و 

لكن قبل أن تكتمل دعواتها انحرفت السيارة خلفها لتغلق الطريق أمامها فجأة، فاصطدمت سلمى بالمكابح بقوة، لتتوقف العربة في منتصف الطريق وهي تلهث برعب وفتح باب السيارة الأخرى بعنف ونزل منها رسلان بخطوات سريعة غاضبة... وجهه مشحون بالتوتر وكتفه ما زال ملفوفا بضمادة تتسرب منها قطرات الدم واقترب منها وفتح بابها بعنف... وأمسك بذراعها بقوة وهتف بصوت غاضب هز الصمت من حولهما:

 انتي بتعملي اكده ليه عااد..وفين حورية وغفران انا عارف انك انتي ال خدتيهم 

صرخت وهي تحاول الإفلات من قبضته، والدموع تنهمر من عينيها:

مش هسيبهم! أنا أمي اتشلت بسببهم! أنا ساعدتكم كتير المفروض تساعدوني مش تسيبوني لوحدي اكده 

هتف بها رسلان وصوته يرتجف بين الغضب والشفقة:

 فوقي بجا شويه يا سلمى! انتي هتفضلي مغيبة اكده لحد إمتى؟!

نظرت إليه بعينين دامعتين وردت بصوت مكسور:

ــ كلكم خسرتوني كل حاجة... كلكم.. انا كل خياتي ضاعت 

اقترب منها أكثر ونبرته انخفضت لكنها ظلت حادة:

انتي لسه جدامك حاجات كتير يا سلمى، اسمعيني...أمك دي كانت السبب في موت خالك، هي ال جتلت أخوها  ال هو أبو جبل وكانت عارفة كل حاجة، وجمال كان السبب إن جبل يجعد سنين ميشوفش بعيونه... أنا عايز أنقذك من كل دا قبل ما تتدمري زيهم

انهارت سلمى على الأرض، سقطت على ركبتيها وهي تبكي بحرقة صوتها يخرج متقطعا:

انا حياتي اتدمرت خلاص... كل حاجة راحت

اقترب منها رسلان ببطء، وجلس أمامها، ثم مد يده يلامس وجهها المبلل بالدموع وقال بصوتٍ خافت لكنه صادق:

أنا معاكي يا سلمى... بس جوليلي مكانهم فين غفران وحوريه  قبل ما جبل وأسد يعرفوا... والله هيجتلوكي، وأنا مش عايز يوحصلك ضرر... أنا عايز أحميكي

رفعت نظرها إليه بدموعٍ متلألئة تتأمل وجهه الشاحب وكتفه الذي بدأ ينزف مجددا، فشهقت بخوف:

انت بينزف يا رسلان...فيه دم علي الجميص بتاعك ... لازم نروح المستشفى دلوجتي 

ابتسم رسلان ابتسامة باهتة، وقال وهو يضغط على الضمادة بيده:

 مش وجته دلوجتي... خلينا نروح لحورية وغفران الأول، قبل ما جبل وأسد يعملوا حاجة تاني متتصلحش

أمسك رسلان  يدها وساعدها على النهوض، ثم فتح باب السيارة وأشار لها بالصعود. جلست بجانبه وهي ترتجف، بينما هو أدار المحرك بعزمٍ وعيونه تتجه نحو الطريق وفي المساء كان الليل يلف بيت سلمى بسكون مريب، لا يقطعه سوى صوت الريح التي تتسلل من بين النوافذ المهشمة وفجأة، انفتح الباب بعنف، ودخل جبل وأسد بخطوات حادة، وكل منهما يمسك مسدسه، وعيونهما تشتعل غضبا كالنار في الهشيم بينما كانت سلمى تقف في منتصف الصالة، يديها ترتجفان، ووجهها شاحب كمن ينتظر الحكم عليه فتوقف جبل أمامها، عروقه بارزة في عنقه، وصوته خرج خشنا غاضبا:

انتي زي أمك بالظبط... كلكم زي بعض فاكراني مش هعرف... فين مرتي وحوريه يا سلمي.  ااتكلمي بدل جسما بالله العظيم هجتلك 

مد جبل  يده وأمسك بذراعها بقسوة، فشهقت سلمى بخوف وهي تهمس:

سيبني يا جبل... والله ما كنت عايزة أعمل اكده

لكن جبل شدها بقوة، وعيناه تلمعان بنار لا تنطفأ:

متكدبيش! كل حاجة كانت من تحت دماغك انتي وانتي عايزه تنتجمي مني و

وقبل أن يكمل، دوى صوت خطوات من أعلى السلم، ثم ظهرت غفران وحورية تنزلان بسرعة، وجهيهما شاحبين وصرخت غفران بصوت مرتجف وهي تجري نحوه:

جبــل

ألقى جبل مسدسه جانبا وفتح ذراعيه ليحتضنها بقوة، وكأنه يخشى أن تختفي من بين يديه، فيما أسرع أسد نحو حورية وضمها في صمت طويل، عيناه تغرورقان بالدموع التي حاول حبسها منذ أيام وقال جبل بصوتٍ خافت وهو يتحسس وجه غفران بقلق: 

 انتي كويسة؟ حد لمسك.. حوصلك حاجه 

ابتسمت غفران وسط دموعها، وردت بصوت واهن:

أنا كويسة والله الحمد لله متخافش 

ثم التفت جبل نحو سلمى مجددا، ونظراته عادت لتشتعل غضبا وهتف:  

 وانتي... انتي السبب في كل دا

تحرك نحوها بعنف كأنه على وشك أن يصرخ، لكن صوتا قويا أوقفه من الخلف مرددا:  

متلمسهاش... هي ملهاش ذنب

التفت الجميع ليجدوا رسلان واقفا عند باب الغرفة، وجهه شاحب والدم ينزف من كتفه، لكنه ما زال ثابتا رغم الألم وقال بصوت جاد مبحوح:

 أنا ال عملت اكده... أنا ال خدتهم مش هي.

تصلب جبل في مكانه، ثم اندفع نحوه بخطوة غاضبة، ووجه له لكمة قوية جعلت رأس رسلان يرتد للخلف ودمه يتناثر على الأرض وهو يقول بعنف: 

 انت كدّاب ومتدافعش عنها... أنا عارف إنها هي السبب.

تنفس رسلان بصعوبة، ثم قال بصوت هادئ رغم الألم:

 أنا مش هردلك الضربة دي يا جبل... بس لو في حساب، يبجى حاسبني أنا.

تجمد جبل للحظة وعيناه تشتعلان غضبا لكن ما لبث أن لاحظ شيئا غريبًا... وجه رسلان بدأ يفقد لونه، وجسده يهتز بخفة، والدم ينزف بغزارة من كتفه وهمس جبل بدهشة:

انت بتنزف و

قبل أن ينطق رسلان بكلمة، ترنح جسده وسقط للأمام، لكن جبل أسرع بخطوتين وسنده قبل أن يرتطم بالأرض فصرخ جبل بلهجة مضطربةٍ تخالطها الصدمة:

رسلان... فوق متقفلش عينيك اكده... رسلان 

ركع جبل على ركبتيه وهو يهزه برفق، ثم التفت نحو أسد وصرخ :

أسد... شيله بسرعة... لازم نوديه المستشفى دلوجتي حالا

تحرك أسد بسرعة و حمل رسلان بمساعدة جبل، بينما سلمى وقفت تبكي في ركن الصالة، تتابع المشهد بعينين غارقتين بالندم وخرجوا جميعا وفي صباح يوم جديد كانت الشمس قد بدأت تميل نحو الغروب، ونسيم المقابر يحمل رائحة التراب المبلل بالدعوات والدموع. فوقف الجميع في صمت ثقيل، لا يسمع سوى صوت التراب وهو يلقى على التابوت. كانت زوجة عم جبل تدفن، ووجوه الحاضرين شاحبة فتحرك الناس واحدا تلو الآخر مبتعدين عن القبر، بينما بقي جبل وأسد وغفران وحور على مسافة قريبة، يراقبون المشهد بصمت حزين فقطع أسد السكون بنبرةٍ غليظة وقال: 

انت كنت عايزها تموت يا جبل؟

رفع جبل نظره نحو القبر، ثم أجابه بصوت منخفض لكنه ممتلئ بالصدق:

لع...والله العظيم لع . أنا انتجمت فعلا من عمتي، بس مرت عمي؟ لع... دي ربتني، وكنت حاسس إنها بتحبني بجد. حتي لو مانت اذيتني... انا بحس انها بتحبني والله.... يمكن ربنا عمل اكده علشان ضميري ميوجعنيش لو أنا ال حاسبتها

سكت أسد للحظة، ثم قال وهو ينظر له بثبات:

مش جاه الوجت بجا ال تعترف فيه بموضوع أمك وأخوك؟

نظر جبل له بضيق وقال:

ويمكن جاه الوقت برده إنك انت ترجع لحوريه... انتوا مش هتعرفوا تعيشوا من غير بعض، وال بينكم أقوى من أي خلاف. خلينا نصلح كل حاجه يا أسد... يلا، تعالي

ابتسم أسد بخفة حزينة، ثم نظر إلى حوريه التي كانت تراقبه من بعيد بعينين دامعتين، ومد جبل يده له في صمت. تبادلا النظرات، ثم تحركا معا نحو المخرج، تتبعهما غفران وحور بخطوات بطيئة  وفي المساء كانت رائحة المطهرات تملأ أجواء الغرفة البيضاء في المستشفى، وصوت الأجهزة يهمس بإيقاع ثابت يوحي بالسكينة حيث جلس رسلان على السرير، وجهه شاحب قليلا لكن ابتسامته تحاول أن تخفي آثار الألم. وإلى جواره كانت سلمي تجلس وعيناها معلقتان به بقلق لا ينقطع وأصابعها تلتف حول كفه في صمت خائف وما إن انفتح باب الغرفة حتى دخل جبل وأسد بخطوات هادئة، لكن حضورهما كان كفيلا بأن يجمد الدم في عروق سلمي التي وقفت مذعورة وهمت أن تغادر المكان لكن مد رسلان يده بسرعة، وأمسك بيدها قائلا بنبرة مطمئنة:

اجعدي... متخافيش… أنا معاكي

توقفت في مكانها، وجلست بخجل وارتباك، بينما اقترب جبل من السرير، ونظر إلى رسلان بابتسامة خفيفة وقال:

حمد لله على السلامة يا رسلان، بجيت كويس؟"

رد رسلان وهو يحاول رفع كتفه المصاب:

دي إصابة بسيطة، مفيش منها خوف

حول جبل نظره إلى شوق، التي كانت تجلس على الكرسي المتحرك بجانب السرير، بعينين يملؤهما الشوق والذنب فاقترب منها وجثي على ركبتيه أمامها، ثم أمسك بيديها وقبلهما وهو يقول بصوت متهدج:

انا آسف يا أمي… سامحيني

ارتجفت شوق، وانهمرت دموعها، رفعت يديها المرتعشتين ولمست وجهه بحنانٍ أمومي غامر، وقالت وسط بكائها:

انا ال آسفة يا جبل… سامحني إني مترفتش طول السنين دي إنك ابني… سامحني 

أغلق عينيه والدموع تنحدر على خده، ثم همس:

انا هعوضك عن كل السنين ال فاتت، بوعدك يا أمي 

ثم رفع رأسه ونظر إلى رسلان بنظرة صافية فيها امتنان حقيقي وقال:

شكراً يا رسلان… أنا عارف إنك حميتني من الرصاصة، وعارف إنك راجل بجد.... من أول لحظة شوفتك فيها حسيت إنك شبهي في كل حاجة… مستحيل أنسى إنك كنت ممكن تموت علشاني، وده جميل هيعيش في رجبتي طول العمر.

ابتسم رسلان بخفة وقال وهو يهز رأسه: 

خلاص يا جبل، مش وجته الكلام ده… احنا إخوات، ومفيش جمايل بين الإخوات. بس لو مصمم تشكرني، يبجى تسامح سلمي… هي معملتش حاجة واتظلمت كتير، وكمان تقنعها توافج تتجوزني

شهقت سلمي بدهشة، ونظرت له بعينين متسعتين وقالت:

بجد يا رسلان

ضحك بخفة وأجابها وهو يشد على يدها:

اكيد بجد… ولا انتي مش عايزاني؟

رددت بسرعة ولهفة ظاهرة:

لع والله، عايزاك… وبحبك و

ثم خفضت عينيها بخجل، والتفتت نحو جبل بتوتر واضح، فاقترب منها بابتسامة دافئة وقال:

انتي عارفة غلاوتك عندي ازاي… وأنا مستحيل أزعل منك. وموافج يا سلمي

ارتسمت على وجهها ابتسامة سعيدة، كأن هما ثقيلا أزيح عن صدرها، بينما مد جبل يده نحو رسلان، ثم جذبه إليه في حضن قوي وقال بصوت مفعم بالعاطفة:

كان نفسي من زمان يبجب عندي أخ صغير… والحمد لله، ربنا رزقني بيك... دلوجتي بجا عندي أخين… إنت وأسد

ساد صمت قصير ملؤه الدفء، بينما نظرت شوق إليهم بعينين دامعتين، وهم الثلاثة يقفون متقاربين كأن القدر أخيرا قرر أن يعيد إليهم معنى العائلة وبعد مرور خمسة أشهر كانت غفران تقف في منتصف غرفتها، والشمس تتسلل عبر النافذة لتلقي خيوطها على وجهها الشاحب الجميل. أمامها كومة من الثياب الملقاة على الأرض، وصوت أنينها الخافت يملأ المكان وهي تحاول أن تجد ما يناسبها، لكن بطنها التي كبرت قليلا كانت تعلن بوضوح عن حياة جديدة تنبض داخلها فـ انفجرت باكية، وهي تجلس على طرف السرير وتقول بصوت مرتجف:

 كل الهدوم بجت ضيقه عليا… شكلي بجا وحش حوي يا جبل 

وفجأة انفتح الباب بهدوء، فدخل جبل بخطوات سريعة و ملامحه امتلأت بالقلق وهو يقترب منها قائلا بصوته العميق:

مالك يا غفران؟ في إي؟ بتعيطي ليه 

رفعت رأسها نحوه والدموع على خديها، وقالت بصوت متهدج:

علشان  كل هدومي مبجيش تدخل عليا، وبقيت حاسة نفسي تقيلة… وشكلي اتغير

نظر إليها جبل للحظة، ثم ابتسم ابتسامة خفيفة وهو يقترب أكثر، وقال مازححا وهو يميل برأسه:

 اتغيرتي آه… بس للأجمل. والله يا غفران، انتي زي الجمر دلوجتي.

رمقته بنظرة غاضبة باكية وقالت:

 بطل تتريق يا جبل، أنا مش ناجصة 

ضحك بخفة وهو يمد يده ليزيل دمعةةعن خدها، ثم قال بنبرة دافئة:

مين جال بتريق؟ استني اكده بس.

خلع قميصه بخفة، ثم ألبسها إياه برفق حتى غطى جسدها كله، وظل هو عاري الصدر أمامها، وقال مبتسما:

شوفي… بجيتي زي الجمر أهه

نظرت إليه وهي تبتسم رغما عنها، ثم ضحكت قائلة:

انت مجنون يا جب.. اي دا بس 

مجنون بيكي وبعدين بجيتي احلي واحلي كمان 

قالها بهدوء وهو يقترب منها أكثر فـمدت ذراعيها تلفها حول عنقه، وقالت وهي تبتسم بعينين دامعتين:

 كل حاجة اتحلت خلاص… أسد رجع لحورية ورسلان هيتجوز سلمي، ومامتك بقت معاها دلوجتي ومبسوطة… كل حاجة بجت تمام

أمسك بيديها برفق وردد بصوت عميق وهتف:  

أنا مبسوط أكتر علشان انتي لسه معايا وجمبي.... بصراحه أي واحدة غيرك كانت سابتني من زمان

غفران بابتسامه وهي تشده نحوها أكثر:  

 مستحيل.....مستحيل أسيبك ولا أجدر أبعد عنك دقيقة واحدة… وانت؟ أوعدني يا جبل

اقترب منها حتى لامس جبينها وقال بصوت خافت يشبه الهمس:

 أوعدك…أوعدك إني هفضل معاكي طول عمري ومستحيل أسيبك لحظة واحدة

ثم ضمها إلى صدره بقوة فابتسمت وهي تضع رأسها على قلبه الذي يخفق بقوة مطمئنة بينما يهمس قرب أذنها:

انتي ال خرجتيني من كل الظلمة ال كنت فيها يا غفران… علشان اكده، مستحيل أبعد عنك... انا بحبك.

أغلقت غفران  عينيها في سكون عميق، والريح تمر من النافذة برفق كأنها تبارك وعدا نقش في ذاكرة الزمن و 



تمت بحمد الله 

تعليقات